الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر وعلل القوافي وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الغناء واختلاف الناس فيه ومن كرهه ولأي وجه كرهه ومن استحسنه ولأي وجه استحسن. وكرهنا أن يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والأمثال عطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه بمجامع النفس. قال أبو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد فلا أدري ما صنعت فيه فقال: لعلك تريد الغناء قلت: أجل. قال: أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثير عزة حيث يقول: وما مر من يوم علي كيومها وإن عظمت أيام أخرى وجلت لاسترخت تكتك. قال: قلت: أتقول لي هذا قال: إي والله وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله. فضل الصوت الحسن قال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق فيصفو له الدم ويرتاح له القلب وتهش له النفس وتهتز الجوارح وتخف الحركات. ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب. وقالت ليلى الأخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها وأعجبه ما رأى من شبابه: إني والله ما حملته سهوا ولا وضعته يتناً ولا أرضعته غيلا ولا أنمته مئقاً. يعني لم أنومه مستوحشا باكياً. ما حملته سهوا. تعني في بقايا الحيض. ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا إذا حملت في استقبال الحيض. وقولها ولا وضعته يتنا تعني منكسا. وقولها: ولا أرضعته غيلا تعني لبناً فاسداً. وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع فلما ظهر عشقته النفس وحن إليه الروح. ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا. ألا ترى أن أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان فاستراحت لها أنفسهم. وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه ويعجبه طنين رأسه. ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح ما خلا السماع فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة. فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته ويرقق القلب من قسوته ويتذكر نعيم الملكوت وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاءً كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد بن أبي داود: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء. حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله. وقال العتابي وذكر رجلا فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء والنحل على الغناء. وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وأن أفراخها لا تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال الراجز: والطير قد يسوقه للموت إصغاؤه إلى حنين الصوت وبعد: فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر: رب سماع حسن سمعته من حسن مقرب من فرح مبعد من حزن لا فارقاني أبداً في صحة من بدني قل للجبان إذا تأخر سرجه هل أنت من شرك المنية ناجي إلا ثاب إليه روحه وقوي قلبه. أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غني بقول حاتم الطائي: يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الجواد يرى في ماله سبلا إلا انبسطت أنامله ورشحت أطرافه أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم: يا وحشتا للغريب في البلد الن ازح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا بالعيش من بعده ولا انتفعا يقول في نأيه وغربته عدل من الله كل ما صنعا إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه وتشوقاً إلى سكنه. اختلاف الناس في الغناء اختلاف الناس في الغناء فأجازه عامة أهل الحجاز وكرهه عامة أهل العراق. فمن حجة من أجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه وندب أصحابه إليه وتجند به على المشركين. فقال لحسان: شن الغارة على بني عبد مناف فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. وهو ديوان العرب ومقيد أحكامهم والشاهد على مكارمها. وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به. قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار وقد كف بصره ومعه ابنه عبد الرحمن فكلما قدم شيء من الطعام قال حسان لابنه: أطعام يد أم طعام يدين فيقول له: طعام يد. حتى قدم الشواء. فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده. فلما رفع الطعام اندفعت قينةٌ لهم تغني بشعر حسان: انظر خليلي بباب جلق هل تبصر دون البلقاء من أحد جمال شعثاء قد هبطن من ال محبس بين الكثبان فالسند قال: فجعل حسان يبكي وجعل عبد الرحمن يومئ إلى القينة أن تردده. قال الأصمعي: فلا أدري ما الذي أعجب عبد الرحمن من بكاء أبيه. وقالت عائشة رضي الله عنها: علموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. وأردف النبي صلى الله عليه وسلم الشريد فايتنشده من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحساناً لها. فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه قالوا: الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن. وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان. فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنه. وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر. وما الفرق بين أن ينشد الرجل: أتعرف رسما كاطراد المذانب مترسلاً أم يرفع بها صوته مرتجلاً. وإنما جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدنانة. ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور. واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها قالت: نعم. قال: ويعثتم معها من يغني قالت: لا قال: أو ما علمتم أن الأنصار قوم أتيناكم أتيناكم نحييكم نحييكم ولولا الحبة السمرا ء لم نحلل بواديكم واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس ابن عم مالك وكان من أفضل رجال الزهري قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع وهي تغني: هل علي ويحكم إن لهوت من حرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله. والذي لا ينكره أكثر الناس غناء النصب وهو غناء الركبان. حدث عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب فقال: أعيدا علي. فأعدنا عليه. فقال: أنتما كحماري العبادي وقيل له: أي حماريك شر قال: هذا ثم هذا. وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني فقال: ما هذا قال: أبيات عربية أنصبها نصبا. ومن حديث الحماني عن حماد بن زيد بن يسار قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقى له مصلي فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يتغنى. فقلت: سبحان الله أبا إسحاق أتفعل مثل هذا وأنت محرم فقال: يا بن أخي وهل تسمعني أقول هجرا ومن حديث المفضل عن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك. فأسمعه كلمة له. قال: وإنك لقائلها قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب. عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء. قال: وما بأس ذلك يا ابن أخي قال: وحدث عبيد بن عمير الليثي أن داود النبي عليه السلام كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور لتجتمع عليه الجن والإنس والطير فيبكي ويبكي من حوله. وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم. ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه ينفر القلوب ويستفز العقول ويستخف الحليم ويبعث على اللهو ويحض على الطرب وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: " وأخطأوا في التأويل. إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه. وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا. وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وقد حدث إبراهيم بن المنذر الحزامي أن ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير ففرقه في ضعفاء أهلها فقال سفيان بن عيينة: بلغني أن هذا السهمي قدم بمال كثير. قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء يغنيهم قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول فقال له فتى من تلاميذه: يقول: أطوف بالبيت مع من يطوف وأرفع من مئزري المسبل قال: بارك الله عليه ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا قال: وأسجد بالليل حتى الصباح وأتلو من المحكم المنزل قال: وأحسن أيضاً أحسن الله إليه ثم ماذا قال: عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل قال: أمسك أمسك. أفسد آخراً ما أصلح أولاً. ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسن الحسن من قوله وقبح القبيح. وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها كما كره بعضهم الملاذ ولبس العباء وكره الحوارى وأكل الكشكار وترك البر وأكل الشعير لا على طريق التحريم فإن ذلك وجه حسن ومذهب جميل. فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله. يقول الله تعالى: " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون وقد يكون الرجل أيضاً جاهلا بالغناء أو متجاهلاً به فلا يأمر به ولا ينكره. قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد قال: نعم العون على طاعة الله! يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعم سألتني قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه. قال الحسن: والله يا بن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل هذا بنفسه أبداً. وإنما أنكر عليه الحسن تشويه وتعويج فمه وإن كان أنكر الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق وقد ذكرنا أنهم يكرهونه. قال إسحاق بن عمارة: حدثني أبو المغلس عن أبي الحارث قال: اختلف في الغناء عند محمد بن إبراهيم والي مكة فأرسل إلى ابن جريج وإلى عمرو ابن عبيد فأتياه فسألهما فقال ابن جريج: لا بأس به شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سريج المغني فكان إذا غنى لم يقل له: اسكت وإذا سكت لم يقل له: غن وإذا لحن رد عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول: " فأيهما يكتب الغناء الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما لأنه لغو كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم. وقال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يأهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها. قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته ويطلق امرأته ويقذف المحصنة من جاراته ويكفر بربه فأين هذا من هذا من اختار شعراً جيداً ثم اختار له جرماً حسناً فردده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب. فقال أبو يوسف: قطعتني ولم يحر جواباً. قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه فمن جعل هذا لمالك فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى: سليمى أزمعت بينا فأين تظنها أينا ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد. وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر حبا شديدا. فدخل عليه يوماً وبين يديه جارية في حجرها عود فقال: ما هذا يا أبا جعفر. قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن فإن أصاب ظنك فلك الجارية. قال: ما أراني إلا قد أخذتها هذا ميزان رومي. فضحك ابن جعفر وقال: صدقت. هذا ميزان يوزن به الكلام والجارية لك. ثم قال: هاتي. فغنت: أيا شوقا إلى البلد الأمين وحي بين زمزم والجحون ثم قال: هل ترى بأساً قال: لا. قال: فما أرى بهذا بأساً. وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني: لو بدلت أعلى منازلها سفلاً وأصبح سفلها يعلو فقال عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله. قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في كل معنى يفسده إن شاء الله. حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثني الشرقي عن الأصمعي قال. سمع عمر بن عبد العزيز راكباً يغني في سفره: فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا في الطخية المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المدد فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أنفر في السرية وأقسم بالسوية وأعدل في القضية. قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي فسلمت عليه فأوما إلى وأشار بالجلوس فجلست. فلما سلم أخذ بيدي وأشار إلى حلقي وقال: كيف هو قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني: أصبح الربع من أمامة قفراً غير مغنى معارف ورسوم قلت: إذا شئت. قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله. وحدث أبو عبد الله المروزي بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا حبان بن موسى وسويد صاحبا ابن المبارك قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه فلما نظر القوم إلى ما فيه من النفير والغزو والسرايا في كل يوم التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أرقة المصيصة إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني: أذلني الهوى فأنا الذليل وليس إلى الذي أهوى سبيل فأخرج رزنامجا من كمه فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران قال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة فما رئي مثله في العفاف والنبل. فبينما هو نائم ذات ليلة في علية له إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه. فأشرف المخزومي عليه فقال: يا هذا شربت حراماً وأيقظت نياماً وغنيت خطأ خذه عني فأصلحه عليه. قال: الأوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بني إنك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان فعليك بالدين فإن الله يرفع به الخسيسة ويتم به النقيصة. فنفعني الله بقولها. وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال: حدثني الزبير بن بكار: قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية في حجرها عود. فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود. فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده. قال: صدقتم. ثم قال للجارية: هاتي ما عندك فأخذت العود وغنت: ومما شجاني أنها يوم ودعت تولت وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظرة إلي التفاتاً أسلمته المحاجر فقال الشعبي: الصغير أكيسهما يريد الزير. ثم قال: يا هذه أرخي من بمك وشدي من زيرك. فقال له بشر بن مروان: وما علمك قال: أظن العمل فيهما. قال: صدقت ومن لم ينفعه يقينه. وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنى رجل في المسجد الحرام وهو مستلق على قفاه صوتا ورجل من قريش يصلي في جواره فسمعه خدام المسجد فقالوا: يا عدو الله أتغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة. فتجوز القرشي في صلاته ثم سلم وأتبعه فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله إنما كان يقرأ. فقال: يا فساق أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون أنه غنى! خلوا سبيله. فلما خلوه قال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت وأجدت ما شهدت لك اذهب راشدا. وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب. وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام ويحييه جاره الكيال بالشراب ويغني على شرابه: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر فأخذه العسس ليلة فوقع في الحبس وفقد أبو حنيفة صوته واستوحش له. فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال قالوا: أخذه العسس فهو الحبس. فلما أصبح أبو حنيفة وضع الطويلة على رأسه وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى فاستأذن عليه. فأسرع في إذنه. وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك. فأقبل عليه عيسى بوجهه وقال: أمر ما جاء بك يا أبا حنيفة قال: نعم أصلح الله الأمير جارٌ لي من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا فوقع في حبسك. فأمر عيسى بإطلاق كل من أخذ في تلك الليلة إكراماً لأبي حنيفة. فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكراً له. فلما رآه أبو حنيفة قال: أضعناك يا فتى يعرض له بقصيدته. قال: لا والله الأصمعي قال: قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السود. فشكا ذلك إلى الدارمي وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي على أن احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك قال: ما شئت قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول وقال: شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به وكان الشعر: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بزاهد متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبه الخمار الأسود. فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود وباع التاجر جميع ما كان معه. فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه. وحدث عبد الله بن مسلمة بن قتيبة ببغداد قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال: كان عروة بن أذينة يعد ثقةً ثبتاً في الحديث روى عنه مالك ابن أنس وكان شاعراً لبقاً في شعره غزلاً وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين فمن ذلك قوله وغنى به الحجازيون: يا ديار الحي بالأجمه لم يبين رسمها كلمه وهو موضع صوته. ومنه قوله: قالت وأبثثتها وجدي وبحت به قد كنت عندي تحت الستر فاستتر ألست تبصر من حولي فقلت لها غطى هواك وما ألقى على بصري قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت القائل: إذا وجدت أوار الحب في كبدي عمدت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد لا والله ما قال هذا رجل صالح قط. قال: وكان عبد الرحمن بن عبد الله الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة وأنه مر يوماً بسلامة وهي تغني فقام يستمع غناءها. فرآه مولاه فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع فأبى. فلم يزل به حتى دخل. فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك فغنته فأعجبته فقال له مولاها: هل لك في أن أحولها إليك فأبى ذلك عليه فلم يزل به حتى أجابه. فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها. ولما شعرت للحظه إياها غنته: رب رسولين لنا بلغا رسالة من قبل أن يبرحا لم يعملا خفاً ولا حافراً ولا لساناً بالهوى مفصحا حتى استقلا بجوابيهما بالطائر الميمون قد أنجحا الطرف والطرف بعثناهما فقضيا حاجاً وما صرحا قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك. فقالت له يوماً: إني والله أحبك. قال لها: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله. قالت فما يمنعك من ذلك قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوةً يوم القيامة أما سمعت الله تعالى يقول: " ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها وأنشأ يقول: قد كنت أعذل في السفاهة أهلها فاعجب لما تأتي به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما سبل الضلالة والهدى أقسام وله فيها: إن سلامة التي أفقدتني تجلدي لجرير وللغري ض وللقرم معبد خلتهم بين عودها والدساتين واليد أخبار عبد الله بن جعفر حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان قال: حدثني نصر بن علي عن الأصمعي قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء. فأقبل معاوية عاماً من ذلك حاجاً فنزل المدينة فمر ليلةً بدار عبد الله بن جعفر فسمع عنده غناءً على أوتار فوقف ساعة يستمع ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله أستغفر الله. فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضاً فإذا عبد الله قائم يصلي فوقف ليستمع قراءته فقال: الحمد لله ثم نهض وهو يقول: " فلما وضع معاوية يده في الطعام حرك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي ابن زيد وكان معاوية يعجب به: يا لبينى أوقدي النارا إن من تهوين قد حارا رب نار بت أرمقها تقضم الهندي والغارا ولها ظبي يؤججها عاقد في الخصر زنارا قال: فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام وجعل يضرب برجله الأرض طرباً. فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان فهل ترى به بأساً قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان. قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام فأنزله في دار عياله وأظهر من إكرامه وبره ما كان يستحقه. فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوجة معاوية فسمعت ذات ليلة غناءً عند عبد الله بن جعفر فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك وأنزلته في دار محرمك. فجاء معاوية فسمع شيئاً حركه وأطربه وقال: والله إني لأسمع شيئاً تكاد الجبال تخر له وما أظنه إلا من تلقين الجن ثم انصرف. فما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي. فأنبه فاختةً وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل. ثم إن معاوية أرق ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله وأخبره بخروجي إليه فذهب فأخبره. فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان. قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه ثم قال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل. فقال: مجلس من هذا قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين. قال له معاوية: فإن أذني عليلة فمره فليرجع إلى موضعه وكان موضع بديح المغني. فأمره ابن جعفر فرجع إلى موضعه. فقال له معاوية: داو أذني من علتها. فتناول العود ثم غنى: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدارج فالمتثلم فحرك عبد الله بن جعفر رأسه. فقال معاوية: لم حركت رأسك يا بن جعفر قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت عندها لأبليت ولئت سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خضب فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه. فغناه بديح: أليس عندك شكر للتي جعلت ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم وجددت منك ما كان أخلقه صرف الزمان وطول الدهر والقدم فطرب معاوية طرباً شديداً وجعل يحرك رجله. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك. فقال معاوية: كل كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني. فبعث إلى جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب. وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذ سمع غناء فأصغى إليه فإذا بصوت شجي رقيق لقينة تغني: قل للكرام ببابنا يلجوا ما في التصابي على الفتى حرج فنزل عبد الله عن دابته ودخل على القوم بلا إذن. فلما رأوه قاموا إليه إجلالاً له ورفعوا مجلسه. ثم أقبل عليه صاحب المنزل فقال: يا بن عم رسول الله دخلت منزلنا بلا إذن وما كنت لهذا بخليق. فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك: قال: قينتك هذه سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا فولجنا فإن كنا كراماً فقد أذن لنا وإن كنا لئاماً خرجنا مذمومين. فضحك صاحب المنزل وقال: صدقت جعلت فداك ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه فجاءت فقال لها: غني. فغنت. فطرب القوم وطرب عبد الله. فدعا بثياب وطيب فكسا القوم وصاحب المنزل وطيبهم ووهب له الجارية وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك. ذكر رجل من أهل المدينة أن ابن أبي تيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - دخل على عائشة أم المؤمنين وهي عمته فوضع رأسه في حجرها أو على ركبتها ثم رفع عقيرته يتغنى: ومقيد حجل جررت برجله بعد الهدوء له قوائم أربع فاطرب زمان اللهو من زمن الصبا وانزع إذا قالوا أبي لك منزع فليأتين عليك يوما مرة يبكى عليك مقنعاً لا تسمع قالت له عائشة: يا بني فتق ذلك اليوم. حدث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط قال حدثني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثير قال: قال لي كثير يوماً: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه فوجدنا عنده ابن معاذ المغني فلما رأى كثيراً قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثير فاندفع يغني بشعره حيث يقول: أبائنة سعدى نعم ستبين كما انبت من حبل القرين قرين أإن ذم أجمال وفارق جيرة وصاح غراب البين أنت حزين فأخلفن ميعادي وخن أمانتي وليس لمن خان الأمانة دين فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير فقال: وللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة ذاك والله أشبه بهن وأدعى للقلوب إليهن وإنما يوصفن بالبخل والامتناع وليس بالأمانة والوفاء. وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول: حبذا الإدلال والغنج والتي في طرفها دعج والتي إن حدثت كذبت والتي في ثغرها فلج خبروني هل على رجل عاشق في قبلة حرج فقال كثير: قم بنا من عند هذا ثم نهض. وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق: لو غنتك فلانة جاريتي صوتاً ما أدركتك ذكاتك. قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان. فأخذه بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله ثم أمر الجارية فخرجت وقال لها: هات فغنت: بهواك صيرني العذول نكالا وجد السبيل إلى المقال فقالا ونهيت نومي عن جفوني فانتهى وأمرت ليلي أن يطول فطالا قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمغتر. أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدثه عن إقلاله وكثرة عياله أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالساً بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغصني بانٍ بيد كل جارية مروحة تروح بها عليه مكتوب بالذهب على المروحة الأولى: إنني أجلب الريا ح وبي يلعب الخجل وحجاب إذا الحب يب ثنى الرأس للقبل وغياث إذا الندي م تغنى أو ارتجل وفي المروحة الأخرى: أنا في الكف لطيفة مسكني قصر الخليفة أنا لا أصلح إلا لظريف أو ظريفه أو وصيف حسن القد شبيه بالوصيفه قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هونتا الدنيا علي وأنستاني سوء حالي وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة فإذا تذكرت امرأتي وكنت لها محبا تذكرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إلي بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سروراً بما ذكرت له وغما بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك فضلاً عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان قال: فالجاريتان له. قال: فلما صارتا إلي زرت عبد الله بن جعفر فوجدته قد امتلأ فرحاً وهو يشرب وبين يديه عس فيه عسل ممزوج بمسك وكافور. فقال: مهيم. قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة. فقال لي: زد. فأبيت عليه. فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين فخذي في نعتهما فإنهما كما فلكت صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت. عهدي بها في الحي قد جردت زهراء مثل القمر الضامر لو أسند ميتاً إلى صدرها قام ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر قال: فلما سمعت الأبيات طربت ثم تناولت العس فشربت عللاً بعد نهل ورفعت عقيرتي أغني: سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا جبال حنين ما سقوني لغنت قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة فنزل أبو السائب ليبول وعليه طويلته فانصرف دونها. فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك قال: ذكرت قول كثير: أرى الإزار على لبنى فأحسده إن الإزار على ما ضم محسود فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني أنت إلى بر الشيطان سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه. فجاؤوا به. فقال: أعد علي ما تغنيت به. فغنى واحتفل. وكان سليمان أغير الناس فقال لأصحابه: وكأنها والله جرجرة الفحل في الشول. وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت. وأمر به فخصي. وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة على الأحول بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي حمت لحمه الدبر فقال الأحوص: ألا أسمعك غناء قال: تغن. فغناه: أتنسى إذ تودعنا سليمى بعود بشامة سقي البشام بنفسي من تجنبه عزيز علي ومن زيارته لمام ومن أمسي وأصبح لا أراه ويطرقني إذا هجع النيام فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر قال: لجرير. ثم غناه: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك ما يزال معيناً غيض من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا فقال: لمن هذا الشعر فقال لجرير ثم غناه: أسرى لخالدة الخيال ولا أرى شيئاً ألذ من الخيال الطارق إن البلية من يمل حديثه فانقع فؤادك من حديث الومق فقال: لمن هذا الشعر فقال: لجرير. فقال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره. وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى أيام شبابها حنين الجمل إلى عطنه. وقال: الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري وابن صياد. فاستأذنوا عليها فأذنت لهم إلا الأحوص فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب. فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها وقال: شنت عقيلة عنك اليوم بالزاد وآثرت حاجة الساري على الغادي قولا لمنزلها حييت من طلل وللعقيق ألا حييت من وادي إذاً وهبت نصيبي من مودتها لمعبد ومعاذ وابن صياد وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة ورجل من قريش يسمع فأخذه بعض القومة فقالوا: يا عدو الله أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم. وأتبعهم القرشي فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله إنما كان يقرأ. فأطلق سبيله. فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشد من الأعوان. والصوت المنسوب إلى دارات معبد قول أعشى بكر: ويروى أن معبداً دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان وقد فتح خمس مدائن فجعل يفخر بها عند جلسائه. فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات إنها لأكثر من خمس المدائن التي فتحت. والأصوات هي: الأول: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل والثاني: هريرة ودعها وإن لام لائم غداة غد أم أنت للبين واجم والثالث: ودع لبانة قبل أن ترتحلا واسبل فإن سبيله أن يسبلا والرابع: لعمري لئن شطت بعثمة دارها لقد كدت من وشك الفراق أليح والخامس: تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها أصل الغناء ومعدنه قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والقينات. وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات. وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشياً وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب. وقيل إن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم وبكى به على والده. ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب كتاب الموسيقى وهو كتاب اللحون الثمانية. وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما: ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما وإنما غنتا بهذا حين حبس عنهما المطر. وكانت العرب تسمي القينة الكرينة والعود الكران. والمزهر أيضا هو العود وهو البربط وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو علم ابن سريج والدلال ونومة الضحى وكان يكنى أبا عبد النعيم ومن غنائه وهو أول صوت قد براني الشوق حتى كدت من شوقي أذوب أخبار المغنين أولهم: طويس وكان في أيام عثمان رضي الله عنه. حدثنا جعفر بن محمد قال: لما ولي أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان قعد في بهوٍ له عظيم واصطف له الناس فجاءه طويس المغني وقد خضب يديه غمساً واشتمل على دف له وعليه ملاءة مصقولة فسلم ثم قال: بأبي وأمي يا أبان الحمد لله الذي أرانيك أميراً على المدينة إني نذرت لله فيك نذراً إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتاً. قال: فقال: يا طويس ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيب أبحني. قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين وغنى: ما بال أهلك يا رباب خزراً كأنهم غضاب قال: فصفق أبان بيديه ثم قام عن مجلسه فاحتضنه وقبل بين عينيه وقال: يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسن أنا وأنت قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى وعن ابن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج وهو والي المدينة وخرج الناس معه وكان فيمن خرج بكر بن إسماعيل الأنصاري وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فلما انصرفا راجعين مرا بطويس المغني فدعاهما إلى النزول عنده. فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن: أتنزل على هذا المخنث فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. فاحتمل طويس الكلام على سعيد. فأتيا منزله فإذا هو قد نظفه ونجده فأتاهما بفاكهة الشام فوضعها بين أيديهما فقال له بكر بن إسماعيل: ما بقي منك يا طويس قال: بقي كلي يا أبا عمرو. قال: أفلا تسمعنامن بقاياك قال: نعم. ثم دخل خيمته فأخرج خريطة وأخرج منها دف ثم نقر وغنى: يا خليلي نابني سهدي لم تنم عيني ولم تكد كيف تلحوني على رجل مؤنس تلتذه كبدي مثل ضوء البدر صورته ليس بالزميلة النكد من بني آل المغيرة لا خامل نكس ولا جحد نظرت عيني فلا نظرت بعده عيني إلى أحد ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن فقال: يا أبا عثمان أتدري من قائل هذا الشعر قال: لا. قال: قالته خوله بنت ثابت عمتك في عمارة بن الوليد بن المغيرة ونهض. فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك. وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز فأرسل إليهما فسألهما فأخبراه فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم. الأصمعي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يتغنى: أجد بعمرة غنيانها فتهجر أم شاننا شانها وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها فقيل له: اسكت اسكت - لأن عمرة أم النعمان بن بشير - فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا إنما قال: وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها وكان مع طويس بالمدينة ابن سريج والدلال ونومة الضحى ومنه تعلموا. ثم نجم بعد هؤلاء سلم الخاسر وكان في صحبة عبد الله بن جعفر. وعنه أخذ معبد الغناء. ثم كان ابن أبي السمح الطائي وكان يتيماً في حجر عبد الله بن جعفر وأخذ الغناء عن معبد وكان لا يضرب بعود إنما يغني مرتجلاً. فإذا غنى لمعبد صوتاً حققه ويقول: قال الشاعر فلان نام صحبي ولم أنم لخيال بنا ألم إن نام في القصر غادة كحلت مقلتي بدم وكان معبد والغريض بمكة. ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. ولما قدمت سكينة بنت الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها: عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي قالت: والله ما لكما مثل إلا الجدي الحار والبارد ولا يدرى أيهما أطيب. قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختاناً لبعض أهله فقال له بعض القوم: غن. فقال: هو ابن الزانية إن غنى. قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية فغن. قال: أكذلك أبا عبدل قال: نعم: قال: أنت أعلم. فغنى: وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه تشرب لون الرازقي بياضه وبالزعفران خالط المسك رادعه فلوت الجن عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى: أمن مكتومة الطلل يلوح كأنه خلل لقد نزلوا قريباً من ك لو نفعوك إذ نزلوا ثم نجم ابن طنبورة وأصله من اليمن وكان أهزج الناس وأخفهم غناء ومن غنائه: وفتيان على شرف جميعاً دلفت لهم بباطية تدور كأني لم أصد فيهم بباز ولم أطعم بعرصتهم صقوري فلا تشرب بلا لهوٍ فإني رأيت الخيل تشرب بالصفير ويقال إنه حضر مجلساً لرجل من الأشراف إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة. فقيل له: غن فغنى: ويلي من الحية ويل ليه قد عشش الحية في بيتيه فضحك صاحب المدينة ووصله. ومنهم: حكم الوادي وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغني بشعره ومن غنائه: خف من دار جيرتي باين داود أنسها قد دنا الصبح أو بدا وهي لم يقض لبسها فمتى تخرج العرو س لقد طال حبسها خرجت بين نسوةٍ أكرم الجنس جنسها وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد مغن يقال له الغزيل ويكنى أبا كامل وفيه يقول الوليد بن من مبلغ عني أبا كامل أني إذا ما غاب كالهامل ومن غنائه: أمدح الكأس ومن أعملها واهج قوماً قتلونا بالعطش إنما الكأس ربيع باكر فإذا ما لم نذقها لم نعش وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم إبراهيم الموصلي وابن جامع السهمي ومخارق وطبقة أخرى دونهم منهم: زلزل وعمرو الغزال وعلوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان إبراهيم أشدهم تصرفاً في الغناء. وابن جامع أحلاهم نغمة. فقال الرشيد يوماً لبرصوما: ما تقول في ابن جامع فقال: يا أمير المؤمنين وما أقول في العسل الذي حيثما ذقته فهو طيب قال: فإبراهيم الموصلي قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال قال: هو حسن الوجه يا أمير المؤمنين. قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء قال: ابن محرز. قلت: وكيف ذلك قال: إن شئت أجملت وإن شئت فصلت. قلت: أجمل قال: كان يغني كل إنسان بما يشتهي كأنه خلق من قلب كل إنسان. وكان إبراهيم أول من وقع بالقضيب. وحديث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن إذ خرج الآذن فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام. قال: فانصرفنا. فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي قال: فانصرفنا معه. قال: فدخلت دارا لم أر أشرف منها ولا أوسع وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب. قال: فقعدنا ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ وقال: اسقني بالكبير إني كبير إنما يشرب الصغير صغير ثم قال: اسقني قهوة بكوب كبير ودع الماء كله للحمير ثم شرب به وأمر به فملئ وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير. ثم أمر بجوارٍ فأحطن بالدار. فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير من أجمة يتجاوبن. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى. ثم واظب على السماع وسأل عني فجرحني عنده بعض من حسدني فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة. فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً وأمسك عن ذكري. وجفاني كل من كان يصلني لما ظهر من سوء رأيه. فأضر ذلك بي حتى جاءني يوماً علوية فقال لي: أتأذن لي اليوم في ذكرك فإني اليوم عنده. فقلت: لا ولكن غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك: من أين هذا فينفتح لك ما تريد ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية. فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به وهو: يا مشرع الماء قد سدت مسالكه أما إليك سبيلٌ غير مسدود لحائمٍ حار حتى لا حياة به مشرد عن طريق الماء مطرود فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا قال: يا سيدي لعبد من عبيدك جفوته واطرحته قال: إسحاق قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول فسرت إليه. فلما دخلت قال: ادن فدنوت. فرفع يديه مادهما فاتكأت عليه فاحتضنني بيديه وأظهر من إكرامي وبري ما لو أظهره صديقٌ لي مواس لسرني. قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضرت مسامرة الرشيد ليلةً عبثراً المغنى وكان فصيحاً متأدباً وكان مع ذلك يغني الشعر بصوت حسن. فتذاكروا رقة شعر المدنيين فأنشد بعض جلسائه أبياتاً لابن الدمينة حيث يقول: وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا فأعجب الرشيد برقة الأبيات. فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين إن هذا الشعر مدني رقيق قد غذي بماء العقيق حتى رق وصفا فصار أصفى من الهوا ولكن إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى وأصلب وأقوى لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين قال: وذلك لك. فغنى لجرير: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهم وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا روحوا العشية روحة ًمذكورة إن حرن حرنا أو هدينا هدينا فرموا بهن سواهماً عرض الفلا إن متن متنا أو حيين حيينا قال: صدقت يا عبثر وخلع عليه وأجازه. وكان لإبراهيم الموصلي عبدٌ أسود يقال له زرياب وكان مطبوعا على الغناء علمه إبراهيم فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب فغناه بأبيات عنترة الفوارس حيث يقول: فإن تك أمي غرابيةً من أبناء حامٍ بها عبتني فإني لطيفٌ ببيض الظبا وسمر العوالي إذا جئتني فغضب زيادة الله فأمر بصفع قفاه وإخراجه وقال له: إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس فكان عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم. وكان في المدينة في الصدر الأول مغن يقال له: قند وهو مولى سعد بن أبي وقاص. وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه فضربه سعد فحلفت عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه فاسترضاه فرضي عنه وكلمته عائشة. وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة يستعمل هذا سنةً وهذا سنة وكانت في مروان شدة وغلظة وفي سعد لين عريكة وحلم وصفح. فلقي مروان بن الحكم قنداً المغنى وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة فلما رآه قال: قل لقند يشيع الأظعانا ربما سر عيننا وكفانا قال له قند: لا إله إلا الله ما أسمجك والياً ومعزولاً. وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقاً إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق فجاء بالعجب فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر بفضل ردائه فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وكان فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان يمشيان بين يديه أمام دابته فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به وإلا أقطعكما إربا إرباً اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فخذا بضبعيه فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول واعلم أنك مأسور في أيديهما هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتاً فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت. فقال له الحسن: إنما فعلت هذا بك يا بن عائشة لأخلاقك الشكسة. قال له ابن عائشة: والله ما مرت علي مصيبة أعظم منها. لقد بلغت أطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: وكان إبراهيم بن المهدي وهو الذي يقال به ابن شكلة داهياً عاقلاً عالماً بأيام الناس شاعراً مفلقاً وكان يصوغ فيجيد. ويروى عن إبراهيم أنه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه فظفر به المأمون فعفا عنه وقال لما ظفر به المأمون: ذهبت من الدنيا كما ذهبت مني هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً وإن أحتسبها أحتسبها على ضن فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون غنى بهما بين يديه. فقال له المأمون: أحسنت والله يا أمير المؤمنين. فقام إبراهيم رهبةً من ذلك وقال: قتلتني والله يا أمير المؤمنين لا والله لا أجلس حتى تسميني باسمي. قال: اجلس بإبراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون ينادمه ويسامره ويغنيه فحدثه يوما فقال: بينا أنا مع أبيك يوماً يا أمير المؤمنين بطريق مكة إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي وعطشت وجعلت أطلب الرفقة فأتيت إلى بئر فإذا حبشي نائم عندها فقلت له: يا نائم قم فاسقني. فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوتٌ ببالي فترنمت به وهو: كفناني إن مت في درع أروى واسقياني من بئر عروة مائي فلما سمعني قام نشيطاً مسروراً وقال: والله هذه بئر عروة وهذا قبره. فعجبت يا أمير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع. ثم قال: أسقيك على أن تغنيني قلت: نعم. فلم أزل أغنيه وهو يجبذ الحبل حتى سقاني وأروى دابتي ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنيني قلت: نم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا أغنيه حتى أشرفنا على العسكر فانصرف. وأتيت الرشيد فحدثته بذلك فضحك. ثم رجعنا من حجنا فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد فلما رآني قال: مغن والله! قيل له: أتقول هذا لأخي أمير المؤمنين قال: إي لعمر الله لقد غناني وأهدى إلي أقطاً وتمراً. فأمرت له بصلة وكسوة وأمر له الرشيد بكسوة أيضاً. فضحك المأمون وقال: غنني الصوت فغنيته فافتتن به. فكان لا يقترح علي غيره. وكان مخارق وعلوية قد حرفا القديم كله وصيرا فيه نغماً فارسية فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الأول الثقيل قالا: يحتاج غناؤك إلى قصار. واسم علوية علي بن عبد الله بن سيف بن يوسف مولى لبني أمية. وكان زلزل أضرب الناس بوتر لم يكن قبله ولا بعده مثله. ولم يكن يغني وإنما كان يضرب على إبراهيم وابن جامع وبرصوما. ومن غنائه في المأمون: رأى الله عبد الله خير عباده فملكه والله أعلم بالعبد حدث سعيد بن محمد العجلي عن الأصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني حنظلة بن الشرقي شاعراً مجيداً وكان مع ذلك فاسقاً وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك فطلب الإذن عليه أياماً فلم يصل فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك. قال: هات. فأعطاه هذين البيتين: يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى محيا ابن مروان وينهل بارقه يظل فتيت المسك في رونق الضحى تسيل به أصداغه ومفارقه قال: فغني بهما في وقت أريحية فطرب لهما طرباً شديداً وقال: لله در قائلهما من هو قال: أبو الطمحان القيني وهو بالباب يا أمير المؤمنين. قال: ماأعرفه فقال له بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك قال: ليلة الدير. قيل له: وما ليلة الدير قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير. وشربت من خمره وزنيت بها وسرقت كساءها ومضيت. فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم وقال: لا يدخل علينا. فأخذها أبو الطمحان وانسل بها أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال: خرجت يوماً إلى المسجد الجامع ومعي قرطاسا لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء. فممرت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا ببابه المسدود وكان من أحذق الناس بالغناء فقال: أين تريد يا أبا عكرمة قلت: إلى المسجد الجامع لعلي أستفيد في حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعةً حتى خرج الغلمان فحملوني حملاً. فدخلت إلى دارٍ لا والله ما رأيت أحسن منها بناء ولا أطرف فرشاً ولا صباحة وجوه. فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى. فلما أبصرني قال لي: يا بغيض متى تحتشم اجلس فجلست. فقال: ما هذا القرطاس بيدك قلت: يا سيدي حملته لأستفيد فيه شيئاً وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس فمكثنا حيناً ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا أحسن فأكلنا. وحانت مني التفاتة فإذا أنا بزنين ودبيس وهما من أحذق الناس بالغناء قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب وقامت جارية تسقينا شراباً ما رأيت أحسن منه في كأس لا أقدر على وصفها. فقلت: أعزك الله. ما أشبه هذا بقول إبرهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر: حسناء تحمل حسناوين في يدها صاف من الراح في صافي القوارير وقد جلس المسدود وزنين ودبيس. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء فابتدأ المسدود فغنى: لما استقل بأرداف تجاذبه وأخضر فوق نظام الدر شاربه وتم في الحسن والتأمت محاسنه ومازجت بدعا فيها غرائبه وأشرق الورد في نسرين وجنته واهتز أعلاه وارتجت حقائبه كلمته بجفون غير ناطقة فكان من رده ما قال حاجبه ثم سكت فغنى زنين: الحب حلو أمرته عواقبه وصاحب الحب صب القلب ذائبه استودع الله من بالطرف ودعني يوم الفراق ودمع العين ساكبه ثم انصرف وداعي الشوق يهتف بي ارفق بقلبك قد عزت مطالبه ثم سكت وغنى دبيس: وعاتبته دهراً فلما رأيته إذا ازداد ذلاً جانبي عز جانبه بدر في الإنس حفته كواكبه قد لاح عارضه واخضر شاربه إن يعد الوعد يوماً فهو مخلفه أو ينطق القول يوماً فهو كاذبه عاطيته كدم الأوداج صافية فقام يشدو وقد مالت جوانبه قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة. قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة فقلت: يا سيدي المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس إذا ابتدأ المسدود بشيء تبعه الرجلان بمثل ما غنى. فكان مما غنى المسدود: يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاحي يعتاده كل محفو مفارقه من الدهان عليها سحق أمساح ما يدلفون إلى ماء بآنيةٍ إلا اغترافاً من الغدران بالراح ثم سكت فغنى زنين: دع البساتين من آسٍ وتفاح واعدل هديت إلى ذات الأكيراح واعدل إلى فتية ذابت لحومهم من العبادة إلا نضو أشباح وخمرة عتقت في دنها حقباً كأنها دمعة من جفن سياح كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها أغناك لألالؤها عن كل مصباح ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه والليل ملتحفٌ في ثوب سياح فقام يشدو وقد مالت سوالفه يا دير حنة من ذات الأكيراح ثم ابتدأ المسدود فغنى: باحورار العين والدعج وابيضاض الثغر والفلج وبتفاح الخدود وما ضم من مسك ومن أرج كن رقيق القلب إنك من قتل من يهواك في حرج ثم سكت وغنى زنين: كسروي التيه معتدل هاشمي الدل والغنج وله صدغان قد عطفا ببياض الخد كالسبج وإذا ما افتر مبتسما أطلق الأسرى من المهج ما لما بي منك من فرج لا ابتلاني الله بالفرج ثم سكت وغنى دبيس: مر بي في زي خنث بين ذات الضال من أمج قلت قلبي قد فتكت به قال ما في الدين من حرج ثم سكت وغنى المسدود: ما يبالي اليوم من صنعا من بقلبي يبدع البدعا كنت ذا نسك وذا ورع فتركت النسك والورعا كم زجرت القلب عنك فلم يصغ لي يوماً ولا نزعا لا تدعني للهوى غرضاً إن ورد الموت قد شرعا ثم سكت وغنى دبيس: اسقني كأساً مصردة إن نجم الليل قد طلعا قد شربت الحب شرب فتىً لم يدع في كأسه جرعا ثم ابتدأ أيضاً دبيس فغنى: يقولون في البستان للعين لذةٌ وفي الخمر والماء الذي غير آسن إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففي وجه من تهوى جميع المحاسن فابتدأ المسدود فغنى: أدعوك من قلبي إذا لم أرك يا غاية الطرف إذا أبصرك قضى لك الله فسبحان من أحلك القلب ومن قدرك لست بناسيك على حالةٍ يا ليت ما تذكرني أذكرك صيرني الله على ما أرى منك من الهجر كما صيرك قال: فقال زنين: وأنا فلا بد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي فقال: ما ترى فقلت: أحسنت والله. فابتدأ يغني: يا هائم القلب عاص من عذلك ما نلت ممن هويته أملك دعاك داعي الهوى بخدعته حتى إذا ما أجبته خذلك فاحتل لداء الهوى وسطوته إنك إن لم تداوه قتلك ثم ابتدأ المسدود يغني: شققت جيبي عليك شقاً وما لجيبي أردت شقا أردت قلبي فصادفته يداي بالجيب قد توقى قد ذبت شوقاً ومت عشقاً يا زفرات المحب رفقا ثكلت نفسي وزرت رمسي إن كنت للهجر مستحقا ثم سكت وغنى دبيس: ظمئت شوقاً وبحر عشقي يفيض عذاباً ولست أسقى أنا الذي صرت من غرامي على فراش السقام ملقى فمن زفير ومن شهيق ومن دموع تجود سبقا ثم ابتدأ المسدود فغنى: ماذا على نجل العيون لو أنهم أوموا إليك فسلموا أو عرجوا أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا أن المحب إلى الأحبة يدلج ثم سكت وغنى دبيس: هيا فقد بدأ الصباح الأبلج قد ضم مشبهة الغزال الهودج بانوا ولم أقض اللبانة منهم وكذا الكريم إذا تصابى يلهج ثم سكت وغنى زنين: أنضجت قلبي ولو أن الورى لقيت قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى: يا صاحب المقل المراضٍ انظر إلي بعين راض إن تجفني متعمداً لتذيقني جرع الحياض فلطالما أمكنتني منك المراشف عن تراض ثم سكت وغنى زنين: هائم مدنف من الإعراض لا سبيل له إلى الإغماض موثق النوم مطلق الدمع ما يع رف ملجاً من الحتوف القواضي ما برى جسمه سوى لحظاتٍ أمرضته من العيون المراض ثم سكت وغنى دبيس: كن ساخطاً واظهر بأنك راضي لا تبدين تكره الإعراض وانظر إلي بمقلة غضبانةٍ إن كنت لم تنظر بمقلة راض وارحم جفوناً ما تجف من البكا في ليلةٍ مسلوبة الإغماض يا ذا الذي حال عن العهد ومن براني منه بالصد بسمرة الخال وما قد حوى من حمرةٍ في سالف الخد ألا تعطف على عاشقٍ منفرد بالبث والوجد ثم سكت وغنى زنين: أظل بكتمان الهوى وكأنما ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد فلا الدمع أطفى حرقة البين والبكا ولا أنا بالشكوى أنفس من جهدي ثم سكت وغنى دبيس: تهزأت بي لما خلوت من الوجد ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي وعبت علي الشوق والوجد والبكا وأنت الذي أجريت دمعي على خدي صددت بلا جرم إليك أتيته أكان عجيباً لو صددت عن الصد ألا إنني عبدٌ لطرفك خاضع وطرفك مولىً لا يرق على عبد ثم غنى المسدود: أقمت ببلدةٍ ورحلت عنها كلانا عند صاحبه غريب خليلي ما للعاشقين قلوب ولا للعيون الناظرات ذنوب فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى إذا كان لا يلقى المحب حبيب ثم سكت وغنى دبيس: ذلت لوجهك أعين وقلوب بين المخافة والرجاء تذوب يا واحد الحسن الذي لحظاته تدعو النفوس إلى الهوى فتجيب من وجهه القمر المنير وقده غصن نضيرٌ مشرق وكثيب ألناظريك على العيون رقيب أم هل لطرفك في القلوب نصيب ثم ابتدأ المسدود فغنى: قلق لم يزل وصبر يزول ورضى لم يطل وسخط يطول لم تسل دمعتي علي من الرح مة حتى رأيت نفسي تسيل جال في جسمي السقام فجسمي مدنف ليس فيه روح تجول ينقضي للقتيل حول فينسى وأنا فيك كل يوم قتيل ثم سكت وغنى زنين: ثم سكت وغنى دبيس: ليس إلى تركك من حيلة ولا إلى الصبر لقلبي سبيل فكيفما شئت فكن سيدي فإن وجدي بك وجدٌ طويل إن كنت أزمعت على هجرنا فحسبنا الله ونعم الوكيل قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود فقال له: عن صوتاً. فغنى: ما حيلتي وفؤادي هائمٌ أبداً بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع لا والذي تلفت نفسي بفرقته فالقلب من حرق الهجران مصدوع ما أرق العين إلا حب مبتدع ثوب الجمال على خديه مخلوع قال أبو عكرمة: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي ما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا. من سمع صوتاً فوافقه معناه واستخفه الطرب حكى إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت على هارون الرشيد فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال غنيته بأبياته التي يقول فيها: ملك الثلاث الآنسات عناني وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فارتاح وطرب وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه: رشأ لولا محاسنه خلت الدنيا من الفتن كل يوم يسترق له حسنه عبداً بلا ثمن يا أمين الله عش أبداً دم على الأيام والزمن أنت تبقى والفناء لنا فإذا أفنيتنا فكن سن للناس القرى فقروا فكأن البخل لم يكن قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه. فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتا من البساط. فأمر له بثلاثة آلاف درهم. فقال إبراهيم: يا سيدي قد أجزيتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم. فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور! الرياشي عن الأصمعي قال: قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم وأتاه أشعب فيهم. فسلموا عليه وحادثوه ساعةً وخرجوا وبقي أشعب. فقال له جرير: أراك قبيحاً وأراك لئيم الحسب ففيم قعودك وقد خرج الناس فقال له: أصلحك الله إنه لم يدخل عليك اليوم أحدٌ أنفع لك مني قال: وكيف ذلك قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه: يا أخت ناجية السلام عليكم قبل الرحيل وقبل لوم العذل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال: فاستخف جريراً الطرب لغنائه بشعره حتى زحف إليه واعتنقه وقبل بين عينيه وسأله عن حوائجه فقضاها له. الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير فأسرع فيه على إخوانه فذهب. فسأل امرأته وكانت موسرة فمنعته وبخلت عليه. فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعاً. فلما كان ببعض الطريق نزل ماءً يقال له بلاكث. فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء قال: يقال له بلاكث. فقال: بينما نحن من بلاكث بالقا ع سراعاً والعيس تهوي هويا خطرت خطرة على القلب من ذك راك وهنا فما استطعت مضيا قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ق وللحاديين كرا المطيا فقال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين. قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. فانصرف ودخل المصلى ليلاً. فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون فقالوا له: زاد خير. فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره. فقالت له امرأته: زاد خير. فأنشدها الأبيات. قالت: كل ما أملك في سبيل الله إن لم أشاطرك مالي. فشاطرته مالها. وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صمد من الأرض فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت: والله لأتوصلن إليه. فإذا هو عبد أسود. فقلت له: أعد ما سمعت فقال: والله لو كان عندي قرى أقريكه ما فعلت ولكن أجعله قراك. فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع وربما غنيته وأنا وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها إذ ما انقضت أحدوثةٌ لو تعيدها قال عمر: فحفظته منه. ثم تغنيت به على الحالات التي وصف فإذا هو كما ذكره. وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضرباً بعود قال: قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلساً فألفيته على سريره وبين يديه معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة وأبو كامل غزيل الدمشقي فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي. فغنيته: سرى همي وهم المرء يسري وغاب النجم إلا قيد فتر لهم ما أزال له قرينا كأن القلب أودع حر جمر على بكر أخي فارقت بكراً وأي العيش يصلح بعد بكر فقال: أعد يا صامة. ففعلت. فقال لي: من يقول هذا الشعر قلت: يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً. قال الوليد: وأي عيش يصلح بعد بكر. والله لقد حجر واسعاً. هذا والله العيش الذي نحن فيه يصلح على رغم أنفه. وقد قيل إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر فقالت: ومن بكر هذا فوصف لها. فقالت: هو ذاك الأسيد الذي كان يأتينا لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت. وعن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث قال: حججت مع الرشيد فلما نزلت المدينة آخيت بها رجلاً كانت له مروءة ومعرفة وأدب وكان يغني. فإني ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن علي وظننت أمراً قد حدث ففزع فيه إلي. فأسرعت نحو الباب فقلت: ما جاء بك قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد ومجلس شراب قد التقى طرفاه وشواء رشراش وحديث ممتع وغناء مشبع فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت فأخذت مني حميا الكأس مأخذها ثم غنيت بقول نصيب: بزينب ألم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب فكدت أطير طرباً. ثم وجدت في الطرب تنغيصاً إذ لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته. ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال ثم أرجع إلى صاحبي. وضرب بغلته موليا. فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة. وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة فسمع عنده غناء أعجبه فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة قال: سائب خائر قال: فأكثر له العطاء. وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم. فمن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا. ففعل وأجلهم ثلاثاً. فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً. فحط رحله بباب سلامة الزرقاء وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. قالت: أو ما تدري ما حدث بعدك وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. فلقيه فأخبره أنه إنما أقدمه حب التسليم عليه وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والزنا. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. فقال: إنهم وفقوا ووفقت ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها. وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذا أدعها فقال: إذا لا يدعك الناس ولكن تدعو بها فتنظر إليها فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر بها ابن أبي عتيق. فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه فحدثته عن مآثر آبائه ففكه بها. فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها. فقال له: قل لها فلتغن. فغنت: سددن خصاص البيت لما دخلنه بكل بنان واضح وجبين فنزل عثمان عن سريره ثم جلس بين يديها وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها. فقال له: قد أذنت لهم جميعاً. وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا. وأنه خصي فلان فيهم لواحد منهم كان يعرفه. فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن: لمن ربع بذات الجي ش أمسى دارساً خلقا ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة فلما كبر وسلم ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه فأما ثقيله فلا والله ثم كبر. وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة فسمع مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه فجاءوا به. فقال له: أعد ما تغنيت به. فأعاد واحتفل. فقال: لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه. ثم أمر به فخصي. وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشده إبراهيم قول الشاعر: إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية وإذ أجر إليكم سادراً رسني فقام الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس ثم رجع إلى موضعه فجلس. فقال له إبراهيم: ما بالك قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه. إني أتيت إليك من أهلي في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئاً لديك سوى حي الحمول بجانب الرمل قال له: انزل فك ما طلبت مر دحمان المغني بقوم وعليه رداء عدني يثربي. فقالوا له: بكم أخذت الرداء فقال: ما ضر جيراننا إذا انتجعوا وحدث أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان يقال قديماً: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة. قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق. فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرك من طيبه ولا أريحيته. فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي: نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم فقلت أشمسٌ أم مصابيح راهب بدت لك تحت السجف أم أنت هائم بعيدة مهوى القرط إما لنوفلً أبوها وإما عبد شمس وهاشم ولولا أن تقول لنا قريش مقال الناصح الأدنى الشفيق لقلت إذا التقينا قبليني وإن كنا بقارعة الطريق فقال: أحسن والله. هكذا يطيب التلقي لا بالخوف والتوقي. قال: فلما رأيته قد طرب للصوتين ولم يند لي بشيء. قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج وقول عمر بن أبي ربيعة ويقال إنها لجميل: ما زلت أمتحن الدساكر دونها حتى ولجت على خفي المولج فوضعت كفي عند مقطع خصرها فتنفست نفساً ولم تتلهج قالت وحق أخي وحرمة والدي لأنبهن الحي إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لن تحرج فرشفت فاها آخذاً بقرونها رشف النزيف ببرد ماء الحشرج فصاح الهاشمي: أواه! أحسبن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه. وغنى ابن سريج رجلاً من بني هاشم بقول جرير: بعثن الهوى ثم آرتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق قال: فخطب من ثوبه ذراعاً وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان. قال: وصحب شيخٌ من أهل المدينة شاباً في سفينة ومعهم جارية تغني فقال له: إن معنا جارية تغني ونحن نجلك فإذا أذنت لنا فعلنا قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحى وغنت الجارية: حتى إذا الصبح بدا ضؤوه وغابت الجوزاء والمرزم أقبلت والوطء خفي كما ينساب من مكمنه الأرقم فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه طربا ويقول: أنا الأرقم. فأخرجوه وقالوا: ما صنعت بنفسك فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون. وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبةً لرجل من الأشراف. فلما انقضى الطعام اندفعت جاريةً تغني: إلى خالد حتى أنخنا بخالد فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب حتى أخذ نعليه فعلقهما في أذنيه ثم جثى على ركبتيه قال: اهدوني فإني بدنة. كان رجل من الهاشميين يحب السماع فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتاً كان كلفاً به فغناه إياه. فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه ثم قال للمغني: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي: قال: أصلحك الله إنك تجد خلفا من ثوبك وإني لا أجد خلفاً من ثوبي. قال: أنا أخلف لك. قال: فافعل ونفعل. قال: أخرجتنا من حد الطيب إلى حد السوم. من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة قال: حدثني أبي قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك فرابةٌ أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفاً قالت: يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي كنت أحب أن ينالهم شيء مما صرت إليه. فكتب إلى عامله بالمدينة في إشخاصهم وأن يعطى كل رجل منهم عشرة آلاف درهم وأن يعجل بسراحهم إليه. ففعل عامل المدينة ذلك. فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم فأذن لهم وأكرمهم وسألهم حوائجهم. فأما الإثنان فذكرا حوائجهما فقضاها لهما. وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال: يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها. قال: ويحك فسلني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين قال: نعم وكرامة. قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنيني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل. قال: فتغير وجه يزيد وقام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها. قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين افعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت. فقعد يزيد على أحدها وقعدت الجارية على الآخر وقعد الفتى على الثالث ثم دعا بطعام فتغدوا جميعاً ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت. ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني: لا أستطيع سلوًا عن مودتها أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني حتى إذا قلت هذا صادق نزعا فأمر فغنت. فشرب يزيد وشرب الفتى ثم شربت الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتكن قال: تأمرها تغني: تخيرت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هندا ألا عرجا بي بارك الله فيكما وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا قال: فغنت بهما وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين مرها تغني: منا الوصال ومنكم الهجر حتى يفرق بيننا الدهر قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خر الفتى مغشياً عليه. فقال: يزيد للجارية: انظري ما حاله. فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت. فقال لها: ابكيه. قال: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي. قال لها: ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك. فبكته وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه. قال: وحدث أبو يوسف بالمدينة قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أبيه أن عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان فأقام عنده حيناً فبينا هو ذات ليلة في سمره إذ تذاكروا الغناء. فقال عبد الملك: قبح الله الغناء ما أوضعه للمروءة وأجرحه للعرض وأهدمه للشرف وأذهبه للبهاء. وعبد الله ساكت وإنما عرض لعبد الله وأعانه عليه من حضر من أصحابه. فقال عبد الملك: ما لك أبا جعفر لا تتكلم قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق. قال: أما إني نبئت أنك تغني قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: أفٍ لك وتف. قال: لا أف ولا تف فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك. قال: وما هو قال: يأتيك الأعرابي الجافي الزور ويقذف المحصنات فتأمر لها بألف دينار وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي فأختار لها من الشعر أجوده ومن الكلام أحسنه ثم تردده علي بصوت حسن فهل بذلك بأس قال: لا بأس ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع قال: نعم اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما فعلقت منهما حتى غلبت عليهما فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي: إما أهديتها إلي وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به فأبيت عليه. فبينا هي عندي على تلك الحال إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أن فتى من أهل المدينة يسمع غناءها فعلقها وشغف بها وأنه يجيء في كل ليلة مستتراً يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف. فراعيت مجيئه فإذا الفتى قد أقبل مقنع الرأس فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا. فلم أدع بها تلك الليلة وجعلت أتامل موضعه. فبات مكانه الذي هو فيه. فلما انشق الفجر اطلعت عليه فإذا هو في موضعه فدعوت قيمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزينين هذه الجارية واعجلي بها إلي فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحركته. فانتبه مذعوراً فقلت له: لا بأس عليك خذ هذه الجارية فهي لك وإن هممت ببيعها فردها إلي. فدهش وأخذه الخبل ولبط به. فدنوت من أذنه فقلت: ويحك! قد أظفرك الله ببغيتك فقم فانطلق بها إلى منزلك. فإذا الفتى قد فارق الدنيا. فلم أر شيئاً قط أعجب منه. قال عبد الملك: وأنا ما سمعت شيئاً قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدقت به فما صنعت بالجارية قال: تركتها عندي وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكاناً من قلبي وكرهت أن أوجه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد علي فما زالت تلك حالها حتى ماتت. ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال: إني قصدت إليك من أهلي في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئاً لديك سوى حي الحمول بجانب الرمل فقال له انزل فلك ما طلبت. فنزل. فأخرج عوده ثم غناه بقول آمرىء القيس: حي الحمول بجانب العزل إذ لا يلائم شكلها شكلي فلبط بطريفة فإذا هو في الأرض منجدل. فلما أفاق قام يمسح التراب عن وجهه. فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك قال: ارتفع والله من رجلي شيء حار وهبط من رأسي شيء بارد فالتقيا وتصادما فوقعت بينهما لا أدري ما كانت حالي. أخبار عنان وغيرها من القيان حدثت محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة: قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: كان هارون الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها وقال لها: أنا والله أحبك. ثم أمسك عن شرائها. فجلس ليلةٍ معه سماره فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك لا يزال معينا قال: فطرب الرشيد لها طرباً شديداً وأعجب بالأبيات وقال لجلسائه: هل منكم أحد يحيز هذه الأبيات بمثلهن وله هذه البدرة وبين يديه بدرة من دنانير. فقالوا فلم يصنعوا شيئاً. فقال خادم على رأسه: أنا بها لك يا أمير المؤمنين. قال: شأنك. فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له. فدخل وأخبرها الخبر. فقالت: ويحك! وما الأبيات فأنشدها إياها. فقالت له: اكتب: هيجت بالقول الذي قد قلته داء بقلبي ما يزال كميناً قد أينعت ثمراته في حينها وسقين من ماء الهوى فروينا كذب الذين تقولوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هوينا فقالت له: دونك الأبيات فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون. فقال له: ويحك! من قالها! قال: عنان جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي. قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفاً وباتت بقية تلك الليلة عنده. وقال الأصمعي: ما رأيت الرشيد متبذلا قط إلا مرةً كتبت إليه عنان جارية الناطفي رقعة فيها: كنت في ظل نعمة بهواكا آمناً منك لا أخاف جفاكا فسعى بيننا الوشاة فأقرر ت عيون الوشاة بي فهناكا ولعمري لغير ذا كان أولى بك في الحق يا جعلت فداكا قال: فأخذ الرقعة بيده وعنده أبو حفص الشطرنجي فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعراً وله عشرة آلاف درهم فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان فبدر أبو حفص فقال: مجلس ينسب السرور إليه لمحب ريحانه ذكراكا فقال: يا غلام بدرة. فقال جرير: فقال: يا غلام بدرة. قال الأصمعي: فقلت: لم ينلك الرجاء أن تحضريني وتجافت أمنيتي عن سواكا قال: أحسنت والله يا أصمعي لها ولك بهذا البيت عشرون ألفاً. وقال غير أني أشعركم حيث أقول: قد تمنيت أن يغشيني الله نعاساً لعل عيني تراكا قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين. وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إلي خبر عنان وأنها ذكرت لهارون وقيل له إنها أشعر الناس خرجت متعرضاً لها فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان فقلت: ما بعد عنان مطلب. ومضينا حتى أتينا منزله فعقل دابته ثم دخل فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: لا والله إني كسلانة. فحمل عليها بالسوط ثم قال لي: ادخل فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها فطمعت بها فقلت: هذي عنان أسبلت دمعها كالدر إذ ينسل من خيطه ثم قلت لها: أجيزي. فقال: فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها فمن سببك أوذينا. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها. فما زال يشكو الحب حتى حسبته تنفس في أحشائه أو تكلما قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت: ويبكي فأبكي رحمة لبكائه إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت: بديع حسن بديع صدٍ جعلت خدي له ملاذا فأطرقت ساعة ثم قالت: فعاتبوه فعنفوه فأوعدوه فكان ماذا وجلس أبو نواس إلى عنان فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن قال: جيد. قالت: قطع هذا البيت: أكلت الخردل الشامي في قصعة خباز فلما ذهب يقطعه ضحكت به وأضحكت. فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الأحاديث ثم عاد سائلاً لها فقال: كيف علمك بالعروض قالت: حسن يا حسن. فقال: قطعي هذا حولوا عنا كنيستكم يا بني حمالة الحطب فلما ذهبت تقطعه ضحك أبو نواس. فقالت له: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك. حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغن يسمى سوسناً عليه وسم جمال. قال: فبينما هو عنده إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته. فكانت إذ حضر سوسن تسوى عودها وتغني: ما مررنا بالسوسن الغض إلا كان دمعي لمقلتي نديما حبذا أنت والمسمى به أن ت وإن كنت منه أذكى نسيما فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره. فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون. فدعا بها ودعا بالسيف والنطع ثم قال: اصدقيني أمرك قال: يا أمير المؤمنين ينفعني عندك الصدق قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها وأرسل إلى المغني فوهبها له وقال: لا تقربنا. قال أبو الحسن: كان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج. فشرب يوماً فسكر ورقد وانقلب أصحابه إلا مغنياً أظهر التراقد وبقيت معه مغنية للواثق. فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة ودفعها إليها: وكأن كفك في يدي وكأنما بتنا جميعاً في فراش واحد ثم انتبهت ومنكباك كلاهما في راحتي وتحت خدك ساعدي فأجابته: خيراً رأيت وكل ما أبصرته ستناله مني برغم الحاسد وتبيت بين خلاخلي ودمالجي وتحل بين مراشفي ومجاسدي فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ملح الحديث بلا مخافة راصد فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها وقال لهما: ما هذه فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلامٌ ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ إلا أن العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوجها منه. فلما أشهد له وتم النكاح أقامها الواثق بمحضر المغني إلى بيت من بعض البيوت فوقع عليها ثم خرج إليه فقال له: أردت أن تكشخني فيها وهي خادمي فقد كشختك فيها وهي زوجتك. قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية دخل عليه مسلمة أخوه قال: يا أمير المؤمنين تركت الظهور للعامة والشهود للجمعة وأضعت أمر المسلمين واحتجبت مع هذه الأمة. فارعوى قليلاً وظهر للناس. فأوحت حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتاً يهون فيها على يزيد ما ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا فقد منع المحزون أن يتجلدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فلما سمعها ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقت! صدقت! على مسلمة لعنة الله. ثم عاد إلى سيرته الأولى. وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم ابن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفاً شديداً. فلما توفيت أكب عليها أياماً يترشفها ويتشممها حتى أنتنت فقام عنها وأمر بجهازها ثم خرج بين يدي نعشها حتى إذا بلغ القبر نزل فيه حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف لصق إليه مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه. فلما أكثر عليه قال له: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قائلٌ من أجلك هذا هامة اليوم أو غد قال: وطعن في جنازتها فدفناه إلى سبعة عشر يوماً. وذكر المعتصم جاريةً كانت غلبت عليه وهو بمصر ولم يكن خرج بها معه فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية فأقلقني الشوق إليها فهات صوتاً يشبه ما ذكرت لك. فأطرق ملياً ثم غنى: وددت من الشوق المبرح أنني أعار جناحي طائر فأطير فما لنعيم لست فيه بشاشةٌ وما لسرور لست فيه سرور وإن امرأ في بلدة نصف قلبه ونصف بأخرى غيرها لصبور فقال: والله ما عدوت ما في نفسي وأمر له بجائزة ورحل من ساعته. فلما بلغ الفرما قال: غريب في قرى مصر يقاسي الهم والسدما لليلك كان بالميدا ن أقصر منه بالفرما وقال المأمون في قينة له: لها في لحظها لحظات حتف تميت بها وتحيي من تريد فإن غضبت رأيت الناس قتلى وإن ضحكت فأرواح تعود وتسبي العالمين بمقلتيها كأن العالمين لها عبيد وأنشد البحتري في قينة له: أمازحها فتغضب ثم ترضى وجل فعالها حسن جميل وقال ابن المعتز في قينة له: سقتني في ليل شبيه بشعرها شبيهة خديها بغير رقيب فأمسيت في ليلين للشعر والدجا وشمسين من كأس ووجه حبيب وقال هارون الرشيد في قينة له: تبدي صدودا وتخفي تحته مقةً فالنفس راضيةٌ والطرف غضبان يا من وضعت له خدي فذلله وليس فوقي سوى الرحمن سلطان وقال إبراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد ولا تؤتى إلا من باب الطمع. وقال علي بن الجهم: قلت لقينة: هل تعلمين وراء الحب منزلةً تدني إليك فإن الحب أقصاني فقالت: تأتي من باب الذهب وأنشدت: اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه فلم يزل مدنياً من ليس بالداني وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة فجلس عندها يوماً يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها: ناوليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود فلعلك تعود. وناولته عوداً من الأرض. وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إليها إذا نظر إليها. فطلبت منه أن يسلفها دراهم. فانقطع عنها وتجنب دارها فعملت له دواء ولقيته به. فقال لها: ما هذا قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك. قال: اشربيه أنت للطمع فإن انقطع طعمك انقطع فزعي وأنشأ يقول: أنا والله أهواك ولكن ليس لي نفقة فإما كنت تهويني فقد حلت لي الصدقه وقعد أبو الحارث جميز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام. فلما طال ذلك به قال: ما لي لا أسمع للطعام ذكراً قالت: سبحان الله أما تستحي أما في وجهي ما يشغلك عن هذا فقال لها: جعلت فداك لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا. وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة وكان أبو النواس يختلف إليها فتظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما جاءها وجد عندها فتىً يجلس عندها ويتحدث إليها فقال فيها: ومظهرةٍ لخلق الله ودا وتلقي بالتحية والسلام أتيت فؤادها أشكو إليه فلم أخلص إليه من الزحام أراك بقية من قوم موسى فهم لا يصبرون على الطعام وقال الشيباني: حضر أبو النواس مجلساً فيه قيان فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم ونحن على المجوسية. وقال العتبي: حضرت قينة مجلساً فغنت فأجادت فقام إليها شيخ من القوم فجلس بن يديها وقال: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق لو كانت الدنيا كلها صرارا في كمي لقطعتها لك فأما إذ لم يكن فجعل الله كل حسنة لي لك وكل سيئة عليك علي. قالت: جزاك الله خيراً فوالله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق إن كان وهب لك شيئاً ولا حمل عنك ثقلاً لأنه ما له حسنةٌ يهبها لك ولا عليك سيئة يحملها عنك فلأي شيء تحمدينه حدث أحمد بن عمر المكي قال حدثني أبي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري من ولد جعفر بن أبي طالب وكان يحب الغناء وكان بالمدينة قينة يقال لها بصبص وكان الجعفري يتعشقها فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها فقد والله أيتمت ولدي وأرملت نسائي وأخرجت ضيعتي. فقاموا معه حتى إذا جاءوا إلى بابها دقه فخرجت إليه فإذا هي أملح الناس دلا وشكلاً فقال لها: يا جارية وكنت أحبكم فسلوت عنكم عليكم في دياركم السلام فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية هاتي عودي. والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره فغنت: تحمل أهلها منها فبانوا على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقاً ثم قال لها: يا سيدتي أفتحسنين أن تغني: وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما وإن ظلموا كنت الذي أتفضل قالت: والله ما أعرف هذا ولكن غيره فغنت: فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله وأنزلكم منا بأكرم منزل قال: فدفع الباب ودخل وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة. خبر الذلفاء قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الأحمر مفروش باليباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وإذا بإزاء كل شق من البستان ميدان بنبت الربيع قد أزهر. وعلى رأسه وصائف كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها. وقد غابت الشمس فنضرت الخضرة وأضعفت في حسنها الزهرة وغنت الأطيار فتجاوبت وسفت الرياح على الأشجار فتمايلت بأنهار فيه قد شققت ومياه قد تدفقت. فقلت: السلام عليك يا أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكان مطرقاً فرفع رأسه وقال: أبا زيد في مثل هذا الحين يصاب أحد حيا قلت: أصلح الله الأمير أو قد قامت القيامة بعد. قال: نعم على أهل المحبة سراً والمراسلة بينهم خفية. ثم أطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا قلت: أعز الله الأمير قهوة صفراء في زجاجة بيضاء تناولها مقدودة هيفاء مضمومة لفاء دعجاء. أشربها من كفها وأمسح فمي بفمها. فأطرق سليمان ملياً لا يحير جواباً تنحدر من عينه عبرات بلا شهيق. فلما رأى الوصائف ذلك تنحين عنه. ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد حللت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك. قلت: نعم أصلح الله الأمير كنت جالساً عند باب أخيك سعيد بن عبد الملك فإذا أنا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد عليها قميصٌ سكبٌ يتبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها مضمومة بفرد ذؤابة تضرب إلى حقويها وتسيل كالعثاكيل على منكبيها وطرة قد أسبلت على متني جبينها وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها وحاجبان قد قوسا على محجري عينيها وعينان مملوءتان سحراً وأنف كأنه قصبة در وفم كأنه جرح يقطر دما. وهي تقول: عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى طال الحجاب وأبطأ الجواب فالفؤاد طائر والقلب عازب والنفس والهة والفؤاد مختلس والنوم محتبس رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً وماتوا تبلداً ولو كان إلى الصبر حيلة وإلى العزاء سبيل لكان أمرا جميلاً ثم أطرقت طويلاً ثم رفعت رأسها. فقلت: أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية سمائية أم أرضية فقد أعجبني ذكاء عقلك وأذهلني حسن منطقك. فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني ثم قالت: اعذر أيتها المتكلم الأريب فما أوحش الساعة بلا مساعد والمقاساة لصبٍ معاند ثم انصرفت. فوالله أصلح الله الأمير ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكراها ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها. قال سليمان: أبا زيد كاد الجهل أن يستفزني والصبا أن يعاودني والحلم أن يعزب عني لحسن ما رأيت وشجو ما سمعت تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر: إنما الذلفاء ياقوتة أخرجت من كيس دهقان شراؤها على أخير ألف ألف درهم. وهي عاشقة لمن باعها والله إني من لا يموت إلا بحزنها ولا يدخل القبر إلا بغصتها وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهية قم أبا زيد فاكتم المفاوضة. يا غلام ثقله ببدرة. فأخذتها وانصرفت. قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان صارت الذلفاء إليه فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر الغض من بين أصفر فاقع واحمر ساطع وأبيض ناصع فهي كالثوب الحرمي. وحواشي البرد الأتحمي يثير منها مر الرياح نسيما يربى على رائحة العنبر وفتيت المسك الأذفر. وكان له مغن ونديم وسمير يقال له سنان به يأنس وإليه يسكن. فأمر أن يضرب فسطاسه بالقرب منه. وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور وأتم حبور إلى أن انصرف مع الليل إلى فسطاسه. فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: قرانا أصلحك الله. قال: وما قراكم قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه. قالوا. غننا صوت كذا. قال: فرفع عقيره يتغنى بهذه الأبيات: محجوبة سمعت صوتي فأرقها من آخر الليل لما طلها السحر تثنى على الخد منها من معصفرة والحلي بادٍ على لباتها خصر في ليلةٍ لا يدري مضاجعها أوجهها عنده أبهى أم القمر لم يحجب الصوت أحراسٌ ولا غلق فدمعها لطروق الصوت منحدر لو خليت لمشت نحوي على قدم تكاد من لينها للمشي تنفطر فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلى الذي وافق المعنى من وقت الليل واستماعها الصوت إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها فهملت عيناها وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال فقال لها: ما هذا يا ذلفاء فقالت: يروعك منه صوته ولعله إلى أمة يعزى معاً وإلى عبد فقال سليمان: دعيني من هذا فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام علي بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذره ولك عشر آلاف درهم وأنت حر لوجه الله. فخرج الرسول. فسبق رسول سليمان. فلما أتي به قال: يا سنان ألم أنهك عن مثل هذا قال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذي نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يضيع حظه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه وأن الحصان إذا صهل استودقت له الفرس وأن الجمل إذا هدر ضبعت له الناقة وأن التيس إذا نب استحرمت له الشاة إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك. قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي فالتفت فرأيتها. فوقفت فقالت: هل من حاجة قلت: تزيدين في السماع قالت: وأنت قائم لو قعدت. فقعدت كالخجل. فقالت: علمك بالغناء قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بغير نار ما منعك من معرفته فوالله أنه لسحوري وفطوري قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي قالت: يا هذا وهل له موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك قالت: فيهن وفيهن ولي بينهن قصة. قلت: وما هي قالت: كنت أيامي شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة وكان زوجي شاباً وضيئاً وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره. فأضر ذلك بي وكان قد علقته امرأة قصار تجاورني فزاد ذلك في غمي. فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي. فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك قلت: وابأبي أنت إذاً تكونين أعظم الخلق منةً علي. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير فإنه حسن الغناء فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك فإنه سيجامعك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة. فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي ثم تغنيت. فإذا غنيت صوتاً بت على زب وإن غنيت صوتين بت على زبين وإن غنيت ثلاثة فثلاثة. فكنا كندماني جذيمة حقبةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة المشورة. قالت: حسبك بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء . قالت: لذع في الفؤاد وأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك قالت: لا أنا في فائت من العيش فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك لا تنصرف خائباً ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها. ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني بها كبداً ليست بذات قروح أبى الناس كل الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها: خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده وتيمته دهراً كأن به سحرا دعى الهجر لا أسمع به منك إنما سألتك أمراً ليس يعري لكم ظهرا فكتبت إليه: صدقت جعلت فداك. ليس يعرى لنا ظهراً ولكنه يملأ لنا بطناً. وكان أبو بكر الكاتب مفتتناً بقينة محمد بن حماد فاهدى إليها قميصاً فقال فيه بعض الكتاب: أهدى إليها قميصاً ينيكها فيه غيره حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشأ وللأخرى جوذر وكان يحب الغناء. وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجالس المتظرفين. فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به. فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي قال له: وما لذتك قال: تحضر لي نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر. فلما شربه المضحك تحركت عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه. فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض. فقال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت يقول غنياني: رحضت فؤادي فخليتني أهيم من الحب في كل واد فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني أظنهما مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي أين المخرج قالت إحداهما للأخرى: ما يقول قالت: يقول غنياني: خرجت بها من بطن مكة بعدما أصات المنادي للصلاة فأعلما فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: لم يفهما والله عني أظنهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. فقال لهما: يا حبيبتي أين المذاهب قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قال: يقول غنياني: ذهبت من الهجران في غير مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب فغنتاه الصوت. فقال في نفسه: لم يفهما عني وما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء فقال لهما: يا حبيبتي أين بيت الخلاء قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن نغني: خلي علي جوى الأشواق إذ ظعنا من بطن مكة والتسهيد والحزنا قال: فغنتاه. فقال: إنا لله وإن إليه راجعون وما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش فقال لهما: أين الحش فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت يسأل أن نغنيه: أوحش الحشان فالربع منها فمناها فالمنزل المعمور فاندفعتا تغنيانه. فقال: ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف. قال: يا حبيبتي أين الكنيف قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا تكنفني الهوى طفلا فشيبني وما اكتهلا قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به والهاشمي يتقطع ضحكاً فقال لهما: كذبتما يا زانيتان ولكني أعلمكما ما هو فرفع ثيابه فسلح عليهما وانتبه الهاشمي: فقال له: سبحان لله! أتسلح على وطائي! قال: والذي خرج من بطني أعز علي من وطائك إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط فأعلمتهما ما هو. قولهم في العود قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال: ليت شعري ما هو فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حراك أعطافه وهز رأسه. مر إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا فقال له: لمن ترهف هذا السيف وقال بعض الكتاب في العود: وناطق بلسان لا ضمير له كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الكلام كما يبدي ضمير سواه منطق القلم ومن قولنا في هذا المعنى: يا مجلساً أينعت منه أزاهره ينسيك أوله في الحسن آخره لم يدر هل بات فيه ناعماً جذلا أو بات في جنة الفردوس سامره والعود يخفق مثناه ومثلثه والصبح قد غردت فيه عصافره وللحجارة أهزاج إذا نطقت أجابها من طيور البر ناقره كأنما العود فيما بيننا ملك يمشي الهوينى وتتلوه عساكره كأنه إذا تمطى وهي تتبعه كسرى بن هرمز تقفوه أساوره ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ما كان يكسر بيت الشعر كاسره صوت رشيق وضرب لو يراجعه سجع القريض إذا ضلت أساطره لو كان زرياب حياً ثم أسمعه لمات من حسد إذ لا يناظره وقال الحمدوني فيه: وسجعت رجع عودٍ بين أربعة سر الضمائر فيما بينها علن فولدت للندامى بين نغمتها وكفها فرحاً تفصيله حزن فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ولا تحير في ألحانها لحن تهدي إلى كل جزء من طبائعها بنانها نغماً أثمارها فتن وترتعي العين منها روض وجنتها طوراً وتسرح في ألفاظها الأذن وقال عكاشة بن الحصين: من كف جارية كأن بنانها من فضة قد طرفت عنابا يا رب صوتٍ يصوغه عصبٌ نيطت بساق من فوقها قدم جوفاء مضمومة أصابعها في ساكنات تحريكها نغم أربعة جزئت لأربعة أجزاؤها بالنفوس تلتحم أصغرها في القلوب أكبرها يبعث منه الشفاء والسقم إذا أرنت بغمز لافظها قلت حمام يجيبهن حم لها لسان بكف ضاربها يعرب عنها وما لهن فم قولهم في المبردين في الغناء قال أبو نواس: قل لزهير إذا شدا وحدا أقلل أو أكثر فأنت مهذار سخنت من شد البرودة حتى صرت عندي كأنك النار لا يعجب السامعون من صفتي كذلك الثلج بارد حار وقال أيضاً: قد نضجنا ونحن في الجيش طرا أنضجتنا كواكب الجوزاء فأصيبوا لنا حسينا ففيه عوض من جليد برد الشتاء لو يغني وفوه ملآن خمراً لم يضره من برد ذاك الغناء وله: كأن أبا المغلس إذ يغني يحاكي عاطساً في عين شمس يميل بشدقه طوراً وطوراً كأن بشدقه ضربان ضرس وقال دعبل: أحسن الأقوام حالاً فيه من كان أصما وقال الحمدوني: بينما نحن سالمون جميعاً إذ أتانا ابن سالم مختالا فتغنى صوتاً فكان خطاء ثم ثنى أيضاً فكان محالا سألنا خلعة على ما تغنى فخلعنا على قفاه النعالا ولعباس الخياط: رأيت يوماً سائباً يضرب فقمت من مجلسنا أهرب لأنه ينبح من عوده عليك من أوتاره أكلب كأنما تسمع في حلقه دجاجة يخنقها ثعلب ما عجبني منه ولكنني من الذي يسمعه أعجب وقال آخر: ومغن يخرى على جلسائه ضرب الله شدقه بغنائه وقال مؤمن في ربيع المغني وكان يتغنى وينقر في الدواة: أغثنا في المصيف إذا تلظى ودعنا في الشتاء وفي الربيع
|